تعريف المسؤولية المدنية
المسؤولية في معناها العام هي المؤاخذة أو التبعة. ويقصد بالمسؤولية المدنية بوجه عام: (المسؤولية عن تعويض الضرر الناجم عن الإخلال بالتزام مقرر في ذمة المسؤول). ويقابلها مصطلح (الضمان) و(الكفالة) في الشريعة الإسلامية. فالخراج بالضمان. ويعتبر المعنى الدقيق لمصطلح (المسؤولية) في إطار الميدان المدني هو: (المؤاخذة عن الأخطاء التي تضر بالغير وذلك بإلزام المخطئ بأداء التعويض للطرف المضرور وفقًا للطريقة والحجم الذين يحددهما القانون). وهو نفسه معنى الضمان الذي جاءت به الشريعة الإسلامية للمحافظة على حقوق الناس ولإبعاد الضرر عنهم ودرءًا للعدوان عليهم وجبرًا لما انتقص من أموالهم. فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار).
ويمكن تعريف المسؤولية المدنية باعتبار المصلحة التي تحميها على أنها: (مسؤولية تهدف إلى حماية مصلحة خاصة يملك المضرور إمكانيات واسعة للتنازل عن حقه في التعويض كلًا أو جزءًا لا فرق في ذلك بين أن يكون الضرر ناتجًا عن الإخلال بالتزام عقدي أو التزام تقصيري)، فالمسؤولية المدنية من حيث الأساس تعني إلزام المسؤول بأداء التعويض للطرف المضرور في الحالات التي تتوافر فيها شروط هذه المسؤولية. وتعتبر المسؤولية المدنية من الأسس الرئيسية للقانون المدني التي يلزم بيان أبعادها للوقوف على مسؤولية كل فرد في النزاعات التي تقع بين الأشخاص وبيان ما يترتب على انعقاد هذه المسؤولية حيالهم. وتعرف القوانين المدنية المسؤولية المدنية بنوعيها العقدية والتقصيرية. غير أنه من المهم أولًا التعرف على أساس المسؤولية المدنية ومصدرها.
أساس المسؤولية المدنية
المبدأ العام للمسؤولية المدنية وأساسها هو الإخلال بالتزام سابق. وقد نصت المحكمة التجارية في جدة في القضية رقم 4430209391 لسنة 1443 على أن: (المسؤولية كأصل عام هي إخلال بالتزام قانوني وواجب قانوني، لا تنبع إلا من مصادر الالتزام: أ- وفقا للمسؤولية العقدية: بإثبات أركانه: الخطأ والضرر والعلاقة السببية. ب- أو وفقا للفعل الضار (المسؤولية التقصيرية): بإثبات أركانه: فعل الإضرار والضرر والعلاقة السببية. ج- أو وفقا للقانون، فبرغم أن الأصل في كل الالتزامات اعتبار مصدرها القانون الذي جعلها تنشأ من مصادر مباشر لها، وحدد أركانها وبين أحكامها، سواء أكان هذا المصدر المباشر هو العقد أم الإرادة المنفردة أم الفعل الضار أم الفعل النافع. بيد أنه بجانب هذه المصادر المباشرة يختار القانون حالات خاصة، ويرتب في كل حالة منها التزاما، يستند حقا إلى عمل قانوني أو عمل مادي، وهو في استناده إليه لا كمصدر عام ينشئ الالتزام في هذه الحالة وفي غيرها من الحالات، بل كواقعة خاصة تنشئ الالتزام في هذه الحالة وحدها دون غيرها، ليكون النص القانوني هو المصدر المباشر لهذا الالتزام والذي يحدد نطاقه ويرسم مداه ويرتب أحكامه، ومنها الالتزام وما يترتب عليه من مسؤولية، فتعد مسؤولية من نوع خاص، وليست مسؤولية عقدية أو تقصيرية. ويستخلص من ذلك أمران: الأول: أن القانون هو المصدر المباشرة لبعض الالتزامات، سواء أكانت التزامات إيجابية أم سلبية، ومن ثم لا سبيل إلى تحديدها إلا بالنص، وهو مصدرها الوحيد. الثاني: أن النص وحده هو الذي يتكفل بتحديد أركان هذا الالتزام القانوني وبيان أحكامه وما يترتب على الإخلال به على سبيل الاستثناء، ومن ثم فالاستثناء لا يتوسع فيه ولا يقاس عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص).
أنواع المسؤولية المدنية
أولًا: المسؤولية العقدية
هي الجزاء المترتب على الإخلال بالالتزامات التعاقدية. فالأصل في الالتزامات الأداء عند الاستحقاق، كما نصت المادة 161 من نظام المعاملات المدنية. وتنفذ هذه الالتزامات جبرًا على المدين، كما نصت المادة 199 من القانون المدني المصري. فإن امتنع المدين عن تنفيذ التزامه الوارد في العقد الذي وقعه أجبر على هذا التنفيذ عينيًا متى كان ذلك ممكنًا، فإن استحال تنفيذ الالتزام عينيًا جاز التنفيذ بطريق التعويض. وتنعقد المسؤولية حياله في هذه الحالة باعتبارها نشأت عن إخلاله بالتزام تعاقدي، وتعرف باسم (المسؤولية العقدية). وفيها لا يسأل المدين إلا عن الضرر الذي كان متوقعًا وقت التعاقد. ويجب الإعذار إذا لم يتضمن العقد الإعفاء عنه.
فالعقد شريعة المتعاقدين. وأي إخلال بهذه الرابطة التعاقدية يستوجب تحميل المسؤولية للطرف الذي تسبب في هذا الخطأ. فتجب هذه المسؤولية على كل عاقد لم يوف بما التزم به في العقد. كمسؤولية المقاول عن التأخر في إقامة البناء الذي تعهد ببنائه عن الميعاد المتفق عليه.
ثانيًا: المسؤولية التقصيرية
تقوم على الإخلال بالتزام قانوني، وهو الالتزام بعدم الإضرار بالغير. وقد نصت المادة رقم 120 من نظام المعاملات المدنية على أنه: (كل خطأ سبب ضررا للغير يُلزم من ارتكبه بالتعويض). فتجب هذه المسؤولية على من أحدث بخطئه ضررًا للغير، وغايتها أن يلزم المخطئ بتعويض الضرر الناشئ عن خطئه. مثل مسؤولية سائق السيارة الذي يقودها دون حيطة فيصيب إنسانًا أو يتلف مالًا.
وقد حددت المادة رقم 118 من نظام المعاملات المدنية نطاق سريان المسؤولية التقصيرية وهو: (المسؤولية الناشئة عن الفعل الضار من الشخص ذي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية).
الأركان العامة للمسؤولية المدنية بنوعيها في القوانين المدنية
قررت محكمة النقض المصرية في أحكامها أنه: (من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن المسئولية التقصيرية لا تقوم إلا بتوافر أركانها الثلاثة من خطأ ثابت في جانب المسؤول إلى ضرر واقع في حق المضرور وعلاقة سببية تربط بينهما). على أن القاعدة العامة المستقرة -قضاءً وفقهًا- هي أن: أركان المسؤولية بنوعيها: الخطأ والضرر والسبب. ولا تعتبر هذه أركان المسؤولية التقصيرية دون التعاقدية. فقد نصت المادة 163 من القانون المدني المصري على أن: (كل خطأ سبب ضررًا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض). وكذلك نصت المادة رقم 120 من نظام المعاملات المدنية. ويلزم إذًا بيان هذه الأركان بشيء من التفصيل.
ركن الخطأ
الخطأ في المسؤولية التقصيرية هو: إخلال الشخص بالتزام قانوني مع إدراكه لهذا الإخلال. فهو إخلال بالتزام قانوني. فالخطأ التقصيري مرهون بتوافر عنصرين أولهما: عنصر مادي/ أو موضوعي: وهو إخلال بواجب قانوني. والآخر عنصر نفسي/ أو معنوي: وهو التمييز والإدراك.
أما الخطأ في المسؤولية العقدية فهو إخلال بالتزام عقدي مصدره الرابطة العقدية بين أطراف هذه الرابطة. سواء كان ذلك عن عمد أو عن إهمال أو لسبب آخر. وسواء كان عدم تنفيذ الالتزام كليًا أو جزئيًا أو كان معيبًا أو متأخرًا. ويرجع في ذلك إلى شروط التعاقد وإلى النصوص القانونية المتعلقة به باعتبارها مكملة لإرادة المتعاقدين.
وقد قررت المحكمة الإدارية العليا في المملكة العربية السعودية في هذا الصدد أن (الخطأ بالنسبة للمسؤولية العقدية يتمثل في مخالفة شروطه سواء التعاقدية أو النظامية). على أنه قد يكون الالتزام في المسؤولية العقدية التزامًا بتحقيق غاية أو التزامًا ببذل عناية، أما الالتزام القانوني الذي يقع به الإخلال في المسؤولية التقصيرية فهو دائمًا بذل عناية؛ ومقتضى هذه العناية أن يتخذ الشخص سلوكًا ينطوي على القدر العادي المألوف من اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير. فإذا انحرف عن هذا السلوك، وكان مدركًا لهذا الانحراف كان هذا خطأ منه يستوجب مسؤوليته التقصيرية.
ركن الضرر
يعتبر الضرر الركن الثاني للمسؤولية المدنية، فلا يكفي وقوع الخطأ بل يجب أن يحدث ضررًا. يقصد بالضرر: المساس بمصلحة للمضرور، ويتحقق بالمساس بوضع قائم أو الحرمان من ميزة محوزة بحيث يصير المضرور في وضع أسوأ مما كان عليه قبل وقوع الخطأ. فلا يلزم أن يقع الاعتداء على حق للمضرور يحميه القانون، بل يكفي أن يمس مصلحة مشروعة. ويشترط في الضرر أن يكون محققًا، ويعتبر كذلك إذا تحقق سببه ولو تراخت آثاره إلى المستقبل كالشأن في الإصابة بعاهة؛ إذ الإصابة محققة وإن تراخى تحديد الخسارة المادية المترتبة عليها، ولا يكفي الضرر الاحتمالي مهما كانت درجته؛ فلا تقوم المسؤولية إلا بعد أن يتحقق بالفعل
ركن السبب
العلاقة المباشرة ما بين الخطأ الذي ارتكبه المسؤول والضرر الذي أصاب المضرور. فيجب أن يكون الخطأ هو السبب في وقوع الضرر. بحيث لا يتصور وقوع الضرر بغير هذا الخطأ. وتعتبر علاقة السببية الركن الثالث من أركان المسؤولية، وتنفصل عن ركن الخطأ. فقد توجد السببية ولا يوجد الخطأ؛ كما لو أحدث الشخص ضررًا بفعل صدر منه لا يعتبر خطأ وتتحقق مسؤوليته فيه على أساس تحمل التبعة. وقد يوجد الخطأ ولا توجد السببية.
ما الذي يجب على محكمة الموضوع أن تتصدى لبيانه أولًا
يجب على محكمة الموضوع أن تتقصى أولًا طبيعة قواعد المسؤولية الواجبة التطبيق لمعرفة ما إذا كانت مسؤولية تقصيرية أو عقدية وهو ما يستلزم منها بحث قواعد المسؤولية الواجبة التطبيق على الواقعة المطروحة أمامها والوقوف على عناصرها. فقد قررت محكمة النقض المصرية أنه: (إذا طبقت محكمة الموضوع خطأ أحكام المسؤولية التقصيرية دون قواعد المسؤولية الواجبة التطبيق فإنها تكون قد خالفت القانون، إذ يتعين عليها -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- أن تتقصى من تلقاء نفسها الحكم القانوني الصحيح المنطبق على العلاقة بين طرفي التعويض وأن تنزله على الواقعة المطروحة عليها لأن تحديد طبيعة المسؤولية التي يتولد عنها حق المضرور في طلب التعويض يعتبر مطروحًا عليها). نقض 2/1/1991. طعن 2091. س57ق.