تعرف مصادر التشريع تحت مصطلح (مصادر القانون) ويراد بها: المصادر الرسمية للقانون. وهي تلك التي يستقي منها القاضي الحكم في النزاع المطروح دون أن يتعداها إلى سواها، باعتبار أن القاضي يأتمر بأمر مشرعه فلا يخرج عليه.
وقد نصت المادة الأولى من نظام المعاملات المدنية الصادر في المملكة العربية السعودية بموجب المرسوم الملكي م/191 بتاريخ 29-11-1444 هـ على هذه المصادر بقولها: (تطبق نصوص هذا النظام على جميع المسائل التي تناولتها في: لفظها/ أو في فحواها. فإن لم يوجد نص يمكن تطبيقه؟ طبقت القواعد الكلية الواردة في الأحكام الختامية. فإن لم توجد قاعدة يمكن تطبيقها؟ طبقت الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لهذا النظام).
ويستفاد من هذا النص أن المنظم في المملكة العربية السعودية قد رتب مصادر التشريع في نظام المعاملات المدنية على أن تبدأ بأحكام هذا النظام، تليه القواعد الكلية الواردة في الأحكام الختامية للنظام، وتنتهي بالأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لهذا النظام. هذه المصادر جرى ترتيبها على سبيل الحصر من المصدر الأعلى إلى الأدنى من حيث إلزام القاضي بتطبيق المصدر على النزاع المطروح أمامه.
ويمكن تفصيل أحكام هذه المصادر كالتالي:
أولًا: نظام المعاملات المدنية.
وهو مجموعة القواعد القانونية الموضوعية التي تنظم العلاقات الخاصة بين الأفراد ومن في حكمهم، إلا ما كان يدخل منها في نطاق فرع آخر من فروع القانون الخاص. ويعتبر نظام المعاملات المدنية الشريعة العامة التي تحكم علاقات وروابط القانون الخاص؛ فهو أصله وأساسه؛ لذا يتعين الرجوع إليه في كل حالة أو مسألة لا يحكمها بالتنظيم أي من فروع القانون الخاص الأخرى.
وتعتبر أحكام النظام هي المصدر الأساسي للتشريع. ونطاق سريان أحكامه على المسائل التي ينظمها صراحةً أو ضمنًا؛ وهو ما عبر عنه المنظم بقوله: (تطبق نصوص هذا النظام على جميع المسائل التي تناولتها في لفظها/ أو في فحواها).
وقد دفعت اعتبارات عدة إلى تقييد أحكام المعاملات المدنية في مدونة واحدة جامعة من بينها حمل القضاة والمتقاضين على الالتزام بأحكام وقواعد نظامية واحدة.
وقد أيدت أحكام القضاء ومبادئه وقراراته وجوب تقيد القضاة بأحكام الأنظمة الصادرة عن المنظم.
فقد نص (مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة) على أن: (القضاء ولاية، وما يصدر من ولي الأمر من تعليمات لا تخالف الشريعة يتعين التقيد بها). (692/ 5)، (1423/11/22). وعلى هذا لا يكون للقاضي الحياد عن ما قرره نظام المعاملات المدنية من أحكام إلا في حالة غياب نص يمكن تطبيقه. فإن لم يوجد نص نظامي يمكن للقاضي تطبيقه على المسألة المعروضة أمامه؟ انتقل إلى المصدر التالي وهو: (القواعد الكلية الواردة في الأحكام الختامية للنظام).
ثانيًا: القواعد الكلية الواردة في الأحكام الختامية للنظام.
وقد وردت هذه الأحكام الختامية في المادة رقم (720) من النظام. وهي المادة قبل الأخيرة. وعدد القواعد فيها 41 قاعدة فقهية. ولا يكون للقاضي الحق في الحياد عن هذه القواعد الكلية إلا إذا لم يكن هناك نص يمكن تطبيقه على المسألة المعروضة أمامه. وهذا ما نصت عليه المادة الأولى من نظام المعاملات المدنية. حينها يكون له اللجوء إلى باب واسع قرره النظام، وهو: الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لهذا النظام.
ثالثًا: الأحكام المستمدة من الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لهذا النظام.
وبهذا ساير المنظم الاتجاه الذي نص عليه في النظام الأساسي للحكم من إعمال أحكام الشريعة الإسلامية أمام القضاء وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة. إذ ينص النظام الأساسي للحكم في المادة السابعة منه على أن: (يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة). فالشريعة الإسلامية هي مصدر النظام الأساسي ومصدر بقية الأنظمة. كما (تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة)؛ وفق نص المادة الثامنة والأربعين من النظام.
ونجد أن أحكام القضاء قد أخذت بهذه القاعدة من إعمال أحكام الشريعة الإسلامية حال غياب نص نظامي ينظم أحكام المسألة، ومن هذا ما قرره (مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة) من أنه: (إذا تعذر إعطاء الحق صاحبه إلا بالجمع بين القصاص والأرش فيما يتعذر فيه القصاص بالكلية، جاز ذلك، وليس في شرع الله ما يمنعه، بل أصول الشريعة تقتضيه). (78/ 3)، (1/ 1407/4). ولا يخفى ما في هذا من سعة على المتقاضين والقضاة ومن تطبيق لأحكام شريعة الله مما لم ينص عليه النظام.
وقد ساير المنظم في ترتيبه لمصادر النظام اتجاه المقنن المدني في جمهورية مصر العربية من اعتبار الأولوية في التطبيق للقانون (والذي يستعمل اصطلاح النظام في المملكة بديلًا عنه)، غير أن المقنن المدني المصري قد جعل الأولوية للعرف على أحكام الشريعة الإسلامية؛ حيث رتب بقية المصادر ترتيبًا تنازليًا حسب التالي: (العرف، ثم الشريعة الإسلامية، ثم القانون الطبيعي، ثم العدالة). فقد نصت المادة الأولى من القانون المدني المصري على أن: (تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
والقاعدة العامة في كلا التشريعين أنه: ليس للقاضي أن يتخطى مصدرًا نص على اتباعه إلى آخر كأن يتخطى أحكام النظام إلى قواعد الشريعة مباشرةً دون المرور على القواعد الكلية الواردة في نهاية النظام وإلا كان حكمه مشوبًا بالخطأ في تطبيق النظام. ويجد هذا الإلزام صداه أمام محكمة النقض المصرية إذ تقول: (متى كان الطاعن قد تمسك بوجود قاعدة عرفية وقدم لمحكمة الموضوع الدليل عليها، فإن لم يكن قد فعل ذلك فلا تثريب على المحكمة إن هي طبقت مبادئ الشريعة الإسلامية مباشرةً عندما يخلو التشريع من حكم يمكن تطبيقه).
ولا يكفي لاستبعاد التشريع أن يكون بلفظه (أي: بعبارته الصريحة) لا يمكن تطبيقه على النزاع، وإنما يجب أن يكون كذلك في فحواه وفي دلالته، مما يوجب على القاضي أن يبحث عن دلالة النص وما تحتويه عبارته فيتقصى ذلك مستعينًا فيه بطرق التفسير وبالرجوع إلى مصادره التاريخية وأعماله التحضيرية لإزالة ما يكتنفه من غموض، فإن لم يجد ما يمكن تطبيقه انتقل إلى المصدر التالي له. أما إذا قصر في البحث واستبعد التشريع كان حكمه مخالفًا للقانون.
وأخيرًا يهدينا استقراء أحكام النظام إلى إعمال مصدر قانوني هام نص عليه في القوانين المدنية المقارنة -مثل: القانون المدني المصري-، وهو: العرف. إذ لم يُنص على العرف -صراحة- في المادة الأولى للنظام، لكن نصت عليه القواعد الكلية الواردة في الأحكام الختامية للنظام، بقولها: (المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا). ما يفهم منه إمكان اعتبار العرف مصدرًا ثانيًا للتشريع يلي أحكام النظام في القوة باعتباره أحد القواعد الفقهية الواردة في الأحكام الختامية للنظام.
والعرف هو: (سنة تواترت في جماعة تراضت على الالتزام بها في معاملاتها). وله عنصران: أحدهما مادي والآخر معنوي. فالمعنوي: أن يكون سنة متواترة. والمادي: أن يكون له طابع الإلزام. ومتى استوفى العرف عنصريه على النحو السابق أصبح قاعدة قانونية مثلها مثل: القاعدة القانونية التشريعية، وتتساوى معها في كافة الوجوه عندما يلجأ القاضي إلى تطبيقها على النزاع في حالة عدم وجود نص تشريعي يسري في شأنه. فالعرف مصدر رسمي احتياطي لا يجوز اللجوء إليه إلا في حالة عدم وجود نص نظامي يحكم النزاع.